فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ الجماعة {وإن كان} بالنون.
وقرأ عمرو بن عليّ وابن مسعود وأبيّ {وإن كاد} بالدال.
والعامة على كسر اللام في {لتزول} على أنها لام الجحود وفتح اللام الثانية نصبًا.
وقرأ ابن محيِصن وابن جريج والكسائيّ {لَتَزُولُ} بفتح اللام الأولى على أنها لام الابتداء ورفع الثانية {وإن} مخفّفة من الثّقيلة، ومعنى هذه القراءة استعظام مكرهم؛ أي ولقد عظم مكرهم حتى كادت الجبال تزول منه؛ قال الطَّبرَيّ: الاختيار القراءة الأولى؛ لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة؛ قال أبو بكر الأنباريّ: ولا حجة على مصحف المسلمين في الحديث الذي حدّثناه أحمد بن الحسين: حدّثنا عثمان بن أبي شيبة حدّثنا وكيع بن الجرّاح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن دانيل قال سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن جبّارًا من الجبابرة قال لا أنتهي حتى أعلم من في السموات، فعمَدَ إلى فراخ نُسُور، فأمر أن تطعم اللحم، حتى اشتدت وعَضَلتْ واستعلجت أمر بأن يُتخذ تابوتٌ يسع فيه رجلين؛ وأن يجعل فيه عصا في رأسها لحم شديد حمرته، وأن يُستوثق من أرجل النسور بالأوتاد؛ وتُشدّ إلى قوائم التابوت، ثم جلس هو وصاحب له في التابوت وأَثَارَ النّسورَ، فلما رأت اللحم طلبته، فجعلت ترفع التابوت حتى بلغت به ما شاء الله؛ فقال الجبّار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى؟ فقال: أرى الجبال كأنها ذباب، فقال: أغلق الباب؛ ثم صعدت بالتابوت ما شاء الله أن تصعد؛ فقال الجبّار لصاحبه: افتح الباب فانظر ما ترى؟ فقال: ما أرى إلا السماء وما تزداد منا إلا بُعْدًا، فقال: نَكِّس العصا فنكّسها، فانقضّت النّسور.
فلما وقع التابوت على الأرض سمعت له هدّة كادت الجبال تزول عن مراتبها منها؛ قال: فسمعت عليًّا رضي الله عنه يقرأ {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ} بفتح اللام الأولى من {لتزول} وضم الثانية.
وقد ذكر الثّعلبيّ هذا الخبر بمعناه، وأن الجبَّار هو النّمرود الذي حاجّ إبراهيم في ربّه، وقال عِكرمة: كان معه في التابوت غلام أمرد، وقد حمل القوس والنبل فرمى بهما فعاد إليه ملطخًا بالدماء وقال: كُفيتُ نَفْسَك إلهَ السّماء.
قال عِكرِمة: تَلطّخ بدم سمكة من السماء، قذفت نفسها إليه من بحر في الهواء معلّق.
وقيل: طائر من الطير أصابه السّهم ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن يُنكِّس اللحم، فهبطت النّسور بالتابوت، فسمعت الجبال حفيف التابوت والنّسور ففزعت، وظنت أنه قد حدث بها حدث من السماء، وأنّ الساعة قد قامت، فذلك قوله: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ}.
قال القُشَيريّ: وهذا جائز بتقدير خلق الحياة في الجبال.
وذكر الماورديّ عن ابن عباس: أن النّمرود بن كنعان بَنَى الصّرح في قرية الرسِّ من سواد الكوفة، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع وخمسين ذراعًا، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسة وعشرين ذراعًا، وصعد منه مع النّسور، فلما علم أنه لا سبيل له إلى السماء اتخذه حصنًا، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه، فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعى الصّرح عليهم فهلكوا جميعًا، فهذا معنى {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} وفي الجبال التي عَنَى زوالها بمكرهم وجهان: أحدهما جبال الأرض.
الثاني الإسلام والقرآن؛ لأنه لثبوته ورسوخه كالجبال.
وقال القُشَيريّ: {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ} أي هو عالم بذلك فيجازيهم، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف.
{وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ} بكسر اللام؛ أي ما كان مكرهم مكرًا يكون له أثر وخطر عند الله تعالى، فالجبال مَثَل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: {وَإنْ كَانَ مَكْرُهُمْ} في تقديرهم {لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالَ} وتؤثر في إبطال الإسلام.
وقرئ {لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبَالُ} بفتح اللام الأولى وضم الثانية؛ أي كان مكرًا عظيمًا تزول منه الجبال، ولكن الله حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كقوله تعالى: {وَمَكَرُواْ مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22] والجبال لا تزول ولكنّ العبارة عن تعظيم الشيء هكذا تكون. اهـ.

.قال الخازن:

{وأنذر الناس}.
يعني وخوف الناس يا محمد بيوم القيامة وهو قوله سبحانه وتعالى: {يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا} يعني ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي {ربنا أخرنا إلى أجل قريب} يعني أمهلنا مدة يسيرة قال بعضهم: طلبوا الرجوع إلى الدنيا حتى يؤمنوا فينفعهم ذلك وهو قوله تعالى: {نجب دعوتك ونتبع الرسل} فأجيبوا بقوله: {أولم تكونوا أقسمتم من قبل} يعني في دار الدنيا {مالكم من زوال} يعني ما لكم عنها انتقال وةلا بعث ولا نشور.
{وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم} يعني بالكفر والمعاصي ممن كان قبلكم من كفار الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} يعني وقد عرفتم كيف كان عقوبتنا إياهم {وضربنا لكم الأمثال} يعني الأمثال التي ضربها الله في القرآن ليتدبروها، ويعتبروا بها فيجب على كل من شاهد أحوال الماضين من الأمم الخالية، والقرون الماضية وعلم ما جرى لهم وكيف أهلكوا أن يعتبر بهم ويعمل في خلاص نفسه من العقاب والهلاك.
قوله سبحانه وتعالى: {وقد مكروا مكرهم} اختلفوا في الضمير إلى من يعود في قوله، وقد مكروا فقيل يعود إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم، وهذا القول صحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وقيل: إن المراد بقوله وقد مكروا كفار قريش الذين مكروا برسول الله صل الله عليه وسلم ومكرهم ما ذكره الله تعالى بقوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآية والمعنى وأنذر الناس يا محمد، يوم يأتيهم العذاب يعني بسبب مكرهم بك.
وقوله تعالى: {وعند الله مكرهم} يعني جزاء مكرهم وقيل إن مكرهم مثبت عند الله ليجازيهم به يوم القيامة {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} يعني وإن كان مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال وقيل: معناه إن مكرهم لا يزيل أمر محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو ثابت كثبوت الجبال وقد حكي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الآية قولًا آخر: وهو أنها نزلت في نمرود الجبار الذي حاجّ إبراهيم في ربه فقال نمرو: إن كان ما يقول إبراهيم حقًا فلا أنتهى حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور فرباهن حتى كبرت وشبت، واتخذ تابوتًا من خشب وجعل له بابًا من أعلى وبابًا من أسفل ثم جوع النسور ونصب خشبات أربعًا في أطراف التابوت وجعل على رؤوس تلك الخشبات لحمًا أحمر وقعد هو في التابوت، وأقعد معه رجلًا آخر، وأمر بالنسور فربطت في أطراف التابوت من أسفل فجعلت النسور كلما رأت اللحم رغبت فيه، وطارت إليه فطارت النسور يومًا أجمع حتى بعدت في الهواء فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها ففتح ونظر فقال له إن السماء كهيئتها فقال له: افتح الباب الأسفل فانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل فقال: أرى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان.
قال: فطارت النسور يومًا آخر وارتفعت حتى حالت الريح بينها وبين الطيران فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى ففعل فإذا السماء كهيئتها، وفتح الباب الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة فنودي أيها الطاغي أين تريد؟ قال عكرمة: وكان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب وأخذ معه الترس، ورمى بسهم فعاد إليهم السهم ملطخًا بدم سمكة قذفت بنفسها من بحر في الهواء وقيل إن طائرًا أصابه السهم فلما رجع إليهم السهم مطلخًا بالدم قال كفيت إله السماء ثم أمر نمرود صاحبه أن يصوب الخشبات إلى أسفل وينكس اللحم ففعل فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال خفيق التابوت والنسور ففزعت، وظنت أنه قد حدث حدث من السماء إن الساعة قد قامت فكادت تزول عن أماكنها، فذلك قوله تعالى: {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال} واستبعد العلماء هذه الحكاية وقال: إن الخطر فيه عظيم ولا يكاد عاقل أن يقدم على مثل هذا الأمر العظيم وليس فيه خير صحيح يعتمد عليه، ولا مناسبة لهذه الحكاية بتأويل الآية ألبتة. اهـ.

.قال الثعالبي:

قوله سبحانه: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب}.
المراد باليَوْمِ: يومُ القيامةِ، ونصبُهُ على أنه مفعولٌ ب {أَنْذِر}، ولا يجوزُ أن يكون ظرفًا، لأن القيامة ليْسَتْ بموطنِ إِنذار، قال الشيخُ العارفُ باللَّهِ عبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبي جَمْرَة: يجبُ التصْدِيقُ بكُلِّ ما أخبر اللَّه ورسُولُهُ به، ولا يتعرَّض إِلى الكيفيَّة في كلِّ ما جاء من أمْرِ الساعة وأَحْوَالِ يومِ القيامةِ، فإِنه أمْرٌ لا تسعه العُقُولُ، وطَلَبُ الكيفيَّة فيه ضعْفٌ في الإِيمانِ، وإِنما يجبُ الجَزْم بالتصديقِ بجميعِ مَا أخبر اللَّه بهِ، انتهى.
قال الغَزَّالِيُّ: فَأَعلمُ العلماءِ وأعْرَفُ الحكماءِ ينكشفُ له عَقِيبَ المَوْت مِنَ العجائبِ والآياتِ ما لَمْ يَخْطُرْ قَطُّ بباله، ولا اختلج به ضميره، فلو لم يكُنْ للعاقلَ هَمٌّ ولا غَمٌّ، إِلا التفكُّر في خَطَر تلك الأحوال، وما الذي ينكشفُ عَنْه الغِطَاء من شقاوةٍ لازمةٍ، أو سعادة دائمةٍ لكان ذلك كافيًا في استغراق جميع العُمُر، والعَجَبُ من غَفْلتنا، وهذه العظائِمُ بَيْنَ أيدينا. انتهى من الإِحياء.
وقوله: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ...} الآية: معناه: يقال لهم، وقوله: {مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ}: هو المُقْسَمُ عليه، وهذه الآية ناظرةٌ إِلى ما حَكَى اللَّه سبحانه عنهم في قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38].
وقوله سبحانه: {وَسَكَنتُمْ...} الآية: المعنَى: بقول اللَّه عزَّ وجلَّ: {وسكَنْتُم} أيها المُعْرِضُون عَنْ آيات اللَّه مِنْ جميعِ العالمِ في {مَسَاكِن الذين ظَلَمُوا أنفسهم} بالكُفْر من الأمم السَّالفة، فنزلَتْ بهم المُثَلاَثُ، فكان حَقُّكُم الاعتبار والاتعاظ. وقوله: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ}: أي: جزاء مكرهم، وقرأ السبعة سوى الكسائِيِّ: {وإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ}- بكسر اللام من {لِتَزُولَ} وفتح الأخيرة-؛ وهذا على أن تكون {إِنْ} نافيةً بمعنى مَا، ومعنى الآية تحقيرُ مَكْرِهم، وأنه مَا كَانَ لِتَزُولَ منه الشرائعُ والنبوَّاتُ وإِقدارُ اللَّه بها التي هي كالْجِبَالِ في ثبوتها وقوَّتها، هذا تأويلُ الحَسَن وجماعة المفسِّرين وتحتملُ عندي هذه القراءةُ أنْ تكونَ بمعنى تَعْظِيمِ مَكْرهم، أي: وإِن كان شديدًا، وقرأ الكسائيّ: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَتَزُولُ مِنْهُ الجِبَالُ}- بفتح اللام الأولَى من لَتَزُولُ، وضمِّ الأخيرة-، وهي قراءة ابن عبَّاس وغيره، ومعنى الآية: تعظيمُ مكرِهِمْ وشدَّتُه، أي: أنه مما يشقى به، ويزيلُ الجبالَ عن مستقرَّاتها، لقوَّته، ولكنَّ اللَّه تعالى أبطله ونَصَرَ أولياءه، وهذا أشَدُّ في العبرة، وقرأ علي وابن مسعود وعمر بن الخطاب وأبيٌّ: {وإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ}، وذكر أبو حاتم أنَّ في قراءة أبيٍّ: {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ اللَّهِ لَزَالَ مِنْ مَكْرِهِمُ الجِبَالُ}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَأَنذِرِ الناس}.
خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إعلامِه أن تأخيرَهم لماذا، وأمرٌ له بإنذارهم وتخويفِهم منه، والمرادُ بالناس الكفارُ المعبّرُ عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهرُ إتيانِ العذاب، والعدولُ إليه من الإضمار للإشعار بأن المرادَ بالإنذار هو الزجرُ عما هم عليه من الظلم شفقةً عليهم لا التخويفُ للانزعاج والإيذاء، فالمناسبُ عدمُ ذكرِهم بعنوان الظلمِ، أو الناسُ جميعًا فإن الإنذارَ عام للفريقين كقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} والإتيانُ يُعمّهما من حيث كونُهما في الموقف وإن كان لحوقُه بالكفار خاصةً، أي أنذِرهم وخوِّفهم {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} المعهودُ وهو اليوم الذي وُصف بما لا يوصف من الأوصاف الهائلةِ أعني يومَ القيامة، وقيل: هو يومُ موتِهم معذَّبين بالسكَرات ولقاءِ الملائكة بلا بشرى، أو يومُ هلاكِهم بالعذاب العاجلِ، ويأباه القصرُ السابق {فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ} أي فيقولون، والعدولُ عنه إلى ما عليه النظمُ الكريم للتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بأن ما لقُوه من الشدة إنما هو لظلمهم، وإيثارُه على صيغة الفاعل حسبما ذكر، أو لا للإيذان بأن الظلمَ في الجملة كافٍ في الإفضاء إلى ما ذكر من الأهوال من غير حاجةٍ إلى الاستمرار عليه كما ينبىء عنه صيغةُ الفاعلِ، وعلى تقدير كونِ المرادِ بالناس مَنْ يعمّ المسلمين أيضًا فالمعنى الذين ظلموا منهم وهم الكفارُ، أو يقول: كلُّ من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذَرين وغيرِهم من الأمم الخاليةِ فإن إتيانَ العذاب يعُمهم كما يشعر بذلك وعدُهم باتباع الرسل.
{رَبَّنَا أَخّرْنَا} رُدَّنا إلى الدنيا وأمهلنا {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} إلى أمد وحدَ من الزمان قريب {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ} أي الدعوةَ إليك وإلى توحيدك أو دعوتَك لنا على ألسنة الرسلِ، ففيه إيماءٌ إلى أنه صدّقوهم في أنهم مرسَلون من عند الله تعالى: {وَنَتَّبِعِ الرسل} فيما جاءونا به أي نتدارك ما فرّطنا فيه من إجابة الدعوةِ واتّباع الرسل، والجمعُ إما باعتبار اتفاقِ الجميعِ على التوحيد وكونِ عصيانهم للرسول صلى الله عليه وسلم عصيانا لهم جميعًا، وإما باعتبار أن المحْكيَّ ظالمو الأمم جميعًا والمقصودُ بيانُ وعدِ كل أمة باتباع رسولِها، {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ} على إضمار القولِ معطوفًا على فيقول أي فيقال لهم توبيخًا وتبكيتًا: ألم تؤخَّروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم إذ ذاك بألسنتكم بطرًا وأشرًا وجهلًا وسفهًا {مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ} مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنيوية أو بألسنة الحال حيث بنيتم مَشيدًا وأمّلتم بعيدًا ولم تحدّثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة، وفيه إشعارٌ بامتداد زمانِ التأخير وبُعد مداه أو ما لكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} وصيغةُ الخطاب في جواب القسم لمراعاة حالِ الخطاب في أقسمتم كما في قوله: حلف بالله ليخرُجَن، وهو أدخلُ في التوبيخ من أن يقال: ما لنا مراعاةً لحال المُقسِم. ذكر البيهقيُّ عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمسُ دعَوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسةُ لم يتكلموا بعدها أبدًا يقولون: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} فيجيبهم الله تعالى: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلى الكبير} ثم يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ} فيجيبهم الله تعالى: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} الآية، ثم يقولون: {رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} فيجيبهم الله تعالى: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ} الآية، ثم يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} فيجيبهم الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالّينَ} فيجيبهم الله تعالى: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} فلا يتكلمون بعدها أبدًا، إن هو إلا زفيرٌ وشهيق وعند ذلك انقطع رجاؤُهم وأقبل بعضهم ينبَح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنمُ، اللهم إنا بك نعوذ وبكنفك نلوذ عز جارُك وجل ثناؤُك ولا إله غيرُك.
{وَسَكَنتُمْ} من السُّكنى بمعنى التبوّؤ والإيطان، وإنما استُعمل بكلمة في حيث قيل: {فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} جريًا على الأصل لأنه منقولٌ عن مطلق السكون الذي حقُّه التعديةُ بها أو من السكون واللُّبث، أي قرِرْتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتَهم في الظلم بالكفر والمعاصي غيرَ محدّثين لأنفسكم بما لقُوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقِه فيما سلفه إيذانٌ بأن غائلةَ الظلم آئلةٌ إلى صاحبه، والمرادُ بهم إما جميعُ مَنْ تقدّم من الأمم المهلَكة عن تقدير اختصاصِ الاستمهال، والخطابُ السابقُ بالمنذرين، وإما أوائلُهم من قوم نوحٍ وهود على تقدير عمومِهما للكل، وهذا الخطابُ وما يتلوه باعتبار حالِ أواخرهم {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ} بمشاهدة الآثار وتواترِ الأخبار {كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد، وكيف منصوبٌ بما بعده من الفعل وليس الجملةُ فاعلًا لتبيّن كما قاله بعضُ الكوفيين، بل فاعله ما دلت هي عليه دَلالةً واضحةً أي فعلنا العجيبَ بهم، وفيه من المبالغة ما ليس في أن يقال: ما فعلنا بهم كما مر في قوله تعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ} وقرئ {وبُيِّن} {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال} أي بينا لكم في القرآن العظيم على تقدير اختصاصِ الخطاب بالمنذَرين أو على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام على تقدير عمومِه لجميع الظالمين صفاتِ ما فعلوا وما فُعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبةِ لكل ظالم، لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالَكم على أعمالهم ومآلَكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجلِ إلى حلول العذابِ الآجل فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي، أو بيّنا لكم أنكم مثلُهم في الكفر واستحقاقِ العذاب، والجملُ الثلاثُ في موقع الحال من ضمير أقسمتم، أي أقسمتم بالخلود والحالُ أنكم سكنتم في مساكن المهلَكين بظلمهم وتبين لكم فعلُنا العجيبُ بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثالِ.